Wikileaks El Asli -- خطابٌ إلى وطنٍ ميت

   خطابٌ إلى وطنٍ ميت



نولد ونموت، وبين هذا وذاك نبحث عن أنفسنا الضائعة. نبحث عن السعادة في عالمٍ مليءٍ بالحزن. نبحث عن شتلة حبقٍ نبتت غفلة خلف جدران معتقلاتٍ تسجن أرواحنا، غير مدركين أن ما السعادة سوى ترجمة لمبادئنا في المجتمع. ‏

أجد نفسي غريباً عن وطني كل يوم. ما زلت أمشي على نفس الأرصفة التي مشيتها عندما كنت طفلاً، ولكن شمس النهار في هذه المدينة باتت مختلفة. أجد نفسي غريباً في أرضٍ زرعتها بيدي، وأجد كل ما حولي متخماً بالغرياء. كل نسمة هواء تعبق ببكاء أطفالٍ مساكين، وصكصكة أسنان فقيرٍ ينام في العراء تحت المطر، وغصة أمٍ فقدت نصف روحها في حرب أهلية دون معنى، وتتحسر على نصف روحها الآخر الذي هاجر إلى ما وراء البحار بحثاً عن لقمة عيشه. ‏

في وطني تذبل الورود قبل وقتها، وأصبحت عصافير السماء تهوى الكسل. حتى صوت الزغاريد تراه محملاً بثقل جراحٍ لم تشف منذ قرون. في وطني أضحى كل شيءٍ رمادياً دون طعم أو لون أو معنى. كلّما مشيت في هذا الوطن أكثر، رأيت أبنية وجدراناً وشوارعاً وطرقاتاً وحيطاناً، وكأن الباطون بات إبن هذا الوطن ونحن الضيوف. ‏

في وطني أخاف أن أصطحب أحلامي خارج المنزل كي لا يقتلها أحد. في وطني أمسى الحق عملة نادرة، واحترام المرء بات مرهوناً بثرائه. في وطني كل ما نهش القوي لحم الضعيف، صفّق له الثعالب والكلاب علّهم يحظون بقضمةٍ من جيف الفقراء. ‏

عندما كان الناس يتمنون الأموال والهدايا والأرزاق، لم أكن أتمنى أياً منهم. كل سنةٍ أطفئ شمعةً في عيد ميلادي، كنت أتمنى أن يكون لي وطناً أعيش فيه، يحميني وأحميه، يخاف عليّ من ظلم الكبار. كنت أتمنى أن أعيش في وطنٍ أفتخر به في كل أصقاع العالم. كل سنةٍ تكثر الشموع، تكثر معها خيبات الأمل. ‏

تقض مضاجعك آلام الوطن كل ليلة، عاجزاً أن تغيّر شيئاً في الأرض التي ولدت فيها. ينهالون عليك بالكره والحقد، ولا ذنب لك سوى أنك عشت أحلاماً، فتتمنى لو بقيت طفلاً لا يحلم سوى بلعبته. ‏

من المؤلم أن تعيش في وطنٍ يلفظ أنفاسه الأخيرة. قد يجرح الناس قلبك مرات كثيرة، لكن لا شيء يجرح روحك سوى خيبة الأمل بوطنٍ ناضلت من أجله. فتبقى ذليلاً، ويبقى وطنك أذلّ منك. وتبقى الهوية جرحاً أزلياً، وجسر عبورٍ حتى تحصل على هويةٍ أخرى من وطنٍ آخر. فتطفئ آخر شموعك، لترقد في سباتٍ عميق...فتموت الأحلام. ‏


كتابة: شادي ذبيان
آب 2012